الشعائر: الجانب الاجتماعي للعقيدة

في هندسة البرمجيات هناك قانون يسمى بقانون كونواي Conway's law نصه:

"Organizations which design systems ... are constrained to produce designs which are copies of the communication structures of these organizations." --Conway

شرحه:

The law is based on the reasoning that in order for a software module to function, multiple authors must communicate frequently with each other. Therefore, the software interface structure of a system will reflect the social boundaries of the organization(s) that produced it, across which communication is more difficult.

أنا بعتبر القانون ده من جماليات هندسة البرمجيات صراحة!!
أي شركة تقوم بكتابة برامج، فإن هيكل البرامج الداخلي سيعكس الهيكل الاجتماعي داخل الشركة، لأن البرامج هي نتاج عمل فرق كثيرة.

----

سورة البقرة يمكنك مطالعة مقاصدها من هنا  ويمكنك مطالعة مقاصدها من كتاب "محتويات سور القرآن الكريم"

سورة البقرة تضمنت في الأساس تبيان أصول دين الإسلام، سواء من ذكر قصة الخلق الأول واختلافها الجذري عن النسخة التوراتية، ثم ذكر قصة أمة بني اسرائيل بكل ما فعلوه مع أنبياء الله، ثم تبيان أصل دعوة التوحيد أنها دعوة كل الرسل ودعوة إبراهيم عليه السلام في الأصل، الذي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكذلك نسله من بعده!
ثم باقي السورة تذكر أحكام الصيام و الحج والعمرة والجهاد وتحريم بعض الطعام و الزكاة و القصاص و النكاح و الطلاق و الصلاة والإنفاق في سبيل الله و أحكام الدين، وكل هذا مخلوطا بتنبيهات عن يوم الحساب ومناقشة قضايا البعث.


صراحة كنت اقف مندهشا من إقران الله جانب العبادات والمعاملات مع جانب عقيدة التوحيد في نفس السورة، في سورة هي أكبر سور القرآن وهي بعد الفاتحة في ترتيب المصحف!!
الأندهاش و الأستفسار هذا كان دافعا لاعادة قراءة قصص بني اسرائيل في سورة البقرة! الذي جانب منه هو مناظرة اليهود وجانب منه هو تحذير المسلمين ان يقعوا مما وقع فيه اليهود!! ستجد أن غالبية معاصي اليهود كانت في جانب العبادات والمعاملات الذي أفضى لتفريط في جانب عقيدة التوحيد!!
ما ذكره القرآن من قصص بني اسرائيل متعلق بما فرطوا فيه في العقيدة هو عبادتهم للعجل و تعليق إيمانهم بالله على رؤيته.
ولكن عند الحديث عن باقي معاصي بني اسرائيل، ذكر الله: صيد السبت، المماطلة في ذبح البقرة، تحريف كلام الله بعد ما عقلوه، عدم سفك دماء بعضهم، وعدم اخراج بعضهم بعضا، قتل رسل الله، الأستطالة على المشركين بكتب الله ثم تكذيب رسول الله الذي دلت عليه نفس الكتب، اتباع سحر الشياطين، .....


كثير من معاصي بني اسرائيل ذكرها الله، هذه المعاصي أنشأت سياق اجتماعي معين، جعل مشاكل العقيدة تحدث، خلقت سياق اجتماعي قادر على احتضان المخالفات العقدية، بالرغم من تهافت تلك المخالفت العقدية عند ردها لصريح العقل حتى!!

مثلا  في سورة المائدة يخبرنا الله: "مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ" يناقش الله هنا الآثار الاجتماعية المترتبة على الشرك بالله!! 

نحن الآن لا نستطيع تخيل بحق سطوة ذاك السياق الأجتماعي الذي خلقه الشرك في عرب الجاهلية لأنه قد زال، لكن يمكنك أن تتصور مقدار من "الجهاد" الذي مارسه زيد بن عمرو بن نفيل أحد حنفاء الجاهلية عندما كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله!

البحيرة و السائبة و الوصيلة والحام، ليست مجرد معاصي يفعلها أهل الشرك، ولكنها سياق اجتماعي تغرق الإنسان في التفاصيل، هي عادات وأفعال بمجرد فعلك لها لتضمن قبولك اجتماعيا فأنت تلقائيا تسلم بمنظومة الشرك العقدية!
لذلك يمكنك تخيل الغربة التي عاشها زيد بن عمرو بن نفيل الذي أخبر عنه الرسول أنه يبعث أمة وحده!!


كان فيه كتاب لاسماعيل راجي الفاروقي عنوانه: "التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة" وكان بيناقش انعكاس عقيدة التوحيد على النظام الاجتماعي.

لذا لا وجود لعقيدة ما ... أي عقيدة بدون شعائر اجتماعية ... العقيدة ليست شيئا رياضيا نعتقده وفقط، بل هي رؤية واسعة نرى بها العالم و الوجود ونرد إليها ما يشكل علينا!
لذا ستفهم حينها الخطاب الإلهي لتذكير بنى اسرائييل بمعاصيهم التي مارسوها كمجتمع، وتنبيه الله للمسلمين بألا يفرطوا في حدود الله وانه سيكون عليهم أن يدخلوا في السلم كافة بعقيدته وبعباداته ومعاملاته! ولعل هذا هو أحد أوجه قول السلف: "المعاصي بريد الكفر"


"وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ"
يخبر الله رسوله أنه قبل النبوة لم يكن يدري ما الإيمان، يقول الطاهر بن عاشور في ذلك:
>>>
ومَعْنى انْتِفاءِ دِرايَةِ الإيمانِ: عَدَمُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِما تَحْتَوِي عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الإيمانِ الشَّرْعِيِّ مِن صِفاتِ اللَّهِ وأُصُولِ الدِّينِ وقَدْ يُطْلَقُ الإيمانُ عَلى ما يُرادِفُ الإسْلامَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] وهو الإيمانُ الَّذِي يَزِيدُ ويَنْقُصُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا﴾ [المدثر: ٣١]، فَيُزادُ في مَعْنى عَدَمِ دِرايَةِ الإيمانِ انْتِفاءُ تَعَلُّقِ عِلْمِ الرَّسُولِ ﷺ بِشَرائِعِ الإسْلامِ.
فانْتِفاءُ دِرايَتِهِ بِالإيمانِ مِثْلُ انْتِفاءِ دِرايَتِهِ بِالكِتابِ، أيِ انْتِفاءِ العِلْمِ بِحَقائِقِهِ ولِذَلِكَ قالَ ما كُنْتَ تَدْرِي ولَمْ يَقُلْ: ما كُنْتَ مُؤْمِنًا.

وكِلا الِاحْتِمالَيْنِ لا يَقْتَضِي أنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِوُجُودِ اللَّهِ ووَحْدانِيَّةِ إلَهِيَّتِهِ قَبْلَ نُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ إذِ الأنْبِياءُ والرُّسُلُ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ فَهم مُوَحِّدُونَ لِلَّهِ ونابِذُونَ لِعِبادَةِ الأصْنامِ، ولَكِنَّهم لا يَعْلَمُونَ تَفاصِيلَ الإيمانِ، وكانَ نَبِيُّنا ﷺ في عَهْدِ جاهِلِيَّةِ قَوْمِهِ يَعْلَمُ بُطْلانَ عِبادَةِ الأصْنامِ، وإذْ قَدْ كانَ قَوْمُهُ يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ في الإلَهِيَّةِ فَبُطْلانُ إلَهِيَّةِ الأصْنامِ عِنْدَهُ تُمَحِّضُهُ لِإفْرادِ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ لا مَحالَةَ.
<<<

يعني أن هناك فرق بين الإيمان بالله إيمانا شرعيا، والعلم بوجود الله و وحدانيته، فالعرب لم تكن تنكر الصانع إلا غلاة الدهرية منهم، وكذلك وجد منهم من كان يوحد الله وينزهه عن الشرك كحالة زيد بن عمرو بن نفيل، ولكنهم جميعا كانوا في حالة افتقار للايمان، فكان زيد بن عمرو يقول: "اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته."

---

بالعودة لقانون كونواي، فإن الشعائر و العبادات التي أقرها الله لعباده هدفها من ضمن أهدافها -والله اعلم- هو حفظ عقيدتهم عليهم وخلق السياق الاجتماعي الذي يساعد على تثبات وتنمية هذه العقيدة، لا يمكن فصل الجانب الاجتماعي عما يعتقده الناس، لذا كانت دعوات العلمانية لحصر العقيدة فقط داخل دور العبادة هي دعوات في ضمنها تهميش كل العقائد إلا عقيدة العلمانية التي ستخلق السياق الاجتماعي المناسب للعقيدة العلمانية!




















Comments

Popular posts from this blog

ستمحوه الرياح

حول الابتلاء و الاختيار

سألت ربي