وإنا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا ومقدرينا

وَنَشرَبُ إِن وَرَدنا الماءَ صَفو ... وَيَشرَبُ غَيرُنا كَدَراً وَطينا
أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا ...  فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا
بغاة ظالِمينَ وَما ظُلِمنا ... وَلكِنا سَنَبدَأُ ظالِمينا

مبدئيا كده قررت اني ابدأ انشر شوية حاجات في دماغي ، بتعرض ليها على فترات ومش بلاقي ليها مخرج غير ال google docs اللي قربت تفرقع من كتر الحاجات اللي بكتبها فيها، فقررت اني ابدأ اكتب هنا بشرط عدم تنقيح ما اكتبه وبدون تحضير، وربنا يسهل!

عنوان البوست هو بيت لمعلقة عمرو بن كلثوم! واظن ان غالبية الناس تعرف اجزاء كبيرة منها بسبب انه كان مقرر دراستها في المرحلة الثانوية!
المهم يعني لحد فترة كبيرة كنت ببص للمعلقة دي على انها نوع من انواع العنجهية الصرفة!! والثلاث أبيات اللي صدرت بيهم البوست ابلغ دليل على كده! بيت منهم بيفتخر ان قومه بيشربوا الماء صفوا وباقي الناس يشربوه كدرا وطينا! ككناية ان قومه هم اول من يردون الماء قبل ان يتعكر من كثرة رمى الدلاء بغية السقيا! وبيت بيفتخر بظلمهم لباقي القبائل، وقبل ان يتقافز لذهنك ان الظلم ده ناتج من ظلم أخرين لهم، لأ عمرو بن كلثوم بيقولك انهم ماتظلموش ولكنهم من هم يبدأون بالظلم!

صراحة لوقت كبير جدا كنت بظن ان الشاعر في المعلقة دي هو إما شخص مغرور و متكبر بطريقة خرافية وإما شخص وضيع الاخلاق! وبقى هذا الانطباع عندي لفترة كبيرة تقدر بالسنوات .... حتى كنت أسمع المعلقة بصوت عادل بن حزمان -يمكنك ان تجدها على يوتيوب- ثم اصطدمت بالبيت الذي هو عنوان البوست!
وإنا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا و مقدرينا!!

دائما كنت بمر على ذكر الموت في أشعار الجاهلين، بشئ من التوقف كان عندي اهتمام بمعرفة كيف كان ينظر العرب في عصر الجاهلية للموت، الموت ذاك اليقين، يمكنك ان تجد ذكر الموت مثلا في شعر لبيد بن ربيعة(صاحب معلقة أيضا):

فتَعْلمَ أنْ لا أنتَ مُدْرِكُ ما مضَى وَلا أنتَ ممّا تَحذَرُ النّفسُ وَائِلُ 
فإنْ أنتَ لم تَصْدُقْكَ نَفسُكَ فانتسبْ لَعَلَّكَ تهديكَ القُرُونُ الأوائِلُ 
فإنْ لم تَجِدْ مِنْ دونِ عَدْنانَ باقياً ودونَ معدٍّ فلتزَعْكَ العَوَاذِلُ 
أرى الناسَ لا يَدرُونَ ما قَدرُ أمرِهمْ بلى : كلُّ ذي لُبٍّ إلى اللّهِ وَاسِلُ 
ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ وكلُّ نعيمٍ لا مَحالة َ زائِلُ

وبرضه هتلاقي ذكر للموت في خطبة قس بن ساعدة: "ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هنا فناموا؟" 
وفي حكمة زهير بن أبي سلمى(صاحب معلقة) تجد:
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ *** تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ

وغيرها تفاصيل كثيرة عن حياة حنفاء الجاهلية وحكماء العصر الجاهلي وتعاطيهم مع مسألة الموت!
غالبية التفاصيل دي قفزت لذهني بعد ما سمعت بيت عمرو بن كلثوم ده!
وإنا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا و مقدرينا!!

البيت عندما سمعته شممت منه رائحة العدمية، وإيراده في مورد الفخر و الحماسة كان موضع شك بالنسبة لي!!
تخيل معي شاعرا يصف نفسه وقومه في اواخر معلقته بانهم يأتون بالملوك مصفدينا وغيرهم يأتي بالنهاب والسبايا، وذلك في حضرة ملك العرب عمرو بن هند!! تأتي امام ملك وتقول اني وقومي نأتي بالملوك مصفدينا، إذن لابد ان هذا الشاعر إما قد فاقت شجاعته ادراك العقول، وإما ان الحمق قد استطال برأسه، كاستطالة الصَّهْبَاءُ بمن ينادمها.
و تضع هذا البيت في بداية مقدمة قصيدتك التي تتغني فيها بكرمك وبكرم قومك وتستحضر مجالس الشرب كدليل على هذا الكرم يأتي هذا البيت فجأة وبغتة ليذكرك بالموت!! وأنه مقدر وأتي لك ولقومك لا محالة!!

صراحة البيت ده وموضعه في المعلقة، استدعى اني اعيد قراءة المعلقة، والتحرر من كل افكار وانطباعات كنت قد كونتها عن صاحبها!
وجدت شرح لأبو قيس محمد رشيد لمعلقة عمرو بن كلثوم هذا، الشرح تجده على يوتيوب في عشر مجالس- هي مجالس طويلة الصراحة، ولكنك ستخرج منها بغير ما دخلت- تقريبا كان الاستماع لاول خمس مجالس كافي لتغيير فعلا نظرتي للمعلقة وصاحبها!!

عمرو بن كلثوم هو ابن ليلى بنت المهلهل بن ربيعة أخي كليب بن ربيعة، والمهلهل يقال انه خال امرئ القيس ابن ملك كندة وأشعر العرب، والمهلهل من فرسان بنو تغلب، واخيه كليب وائل من اشهر فرسان العرب انهى سيطرة العرب القحطانية على شبه الجزيرة العرب وبدأت سيطرة العرب العدنانية على يده، هو قاتل الملوك، بالاضافة إلى ان عمرو بن كلثوم هو سيد قومه من بني تغلب، وفي "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" قيل: "لو أبطأ الإسلام قليلًا، لأكل بنو تغلب الناس" ككناية عن قوة بني تغلب بين الناس ومكانتهم!
المهم سرد النسب ده غرضه هو محاولة لفهم نفسية الشاعر وشخصيته اللي هايساعدني اني افهم باقي كلامه!

المهم بعد صولات وجولات مع معلقة عمرو بن كلثوم وشخصيته، بدأت معلقته تتضح أمامي لحد ما، فهو سيد قومه، اجداده قتلة ملوك وسادة، بغى على قومه بنو بكر و وقف هو وبنو عمومته من بنو بكر يعرضون مظلوميتهم امام الملك عمرو بن هند، وهوا يلقى بمعلقته امام الملك ليحكم له في قضيته، ويعلم يقينا ان بنو بكر قد أحضروا الحارث بن حلزة شاعرهم، والذي سيلقي قصيدته بعد قصيدة عمرو بن كلثوم أمام الملك ايضا، وللمفارقة ايضا فإن قصيدة الحارث بن حلزة سيتم اعتبارها فيها بعد من ضمن المعلقات السبع.

نهاية القصة ان الملك عمرو بن هند سيحكم للحارث بن حلزة وقومه بني بكر، وبنو تغلب ستسحرهم نونية شاعرهم عمرو بن كلثوم وتنسيبهم سكرتها مرارة الحكم ضدهم وسيحفظونها جيلا بعد جيلا ويتغنون بها في اشعار حروبهم. ربما ترى ان عمرو بن كلثوم هو شاب معتد أرعن لم يستخدم شعره ليستميل الملك ليحكم لقومه، بل بدلا من ذلك افتخر بانسابه وبقومه وبحروبهم في موضع لا ينفع فيه الفخر! لكن يبدو والله اعلم ان ذاك الرجل بتلك النفسية والتركيبة التي صرعتها الحروب والمعارك لم يخلق لذلك الموضع! فخرجت نونية الفخر والحماسة لعمرو بن كلثوم.

أما مصير الملك عمرو بن هند، فقد مارس عمرو بن كلثوم فيه هواية اجداده في ذبح الملوك، و صدقه سيفه حينما قال:

وَكُنَّا الأَيْمَنِينَ إِذَا التَقَيْنَا وَكَانَ الأَيْسَرِينَ بَنُو أَبِينَا 
فَصَالُوا صَوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيهِمْ وَصُلْنَا صَوْلَةً فِيْمَنْ يَلِينَا 
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا











Comments

Popular posts from this blog

ستمحوه الرياح

حول الابتلاء و الاختيار

سألت ربي