حول الابتلاء و الاختيار

لما تقدر تحس بتقدم العمر بيك، ويكون ربنا وهبك ذاكرة لحد ما لطيفة، فاكيد اول حاجة هتلاحظها هي تغيير المواضيع اللي بتتناقش وتتكلم فيها مع اصحابك ثم مع اهلك فيما بعد، بعد ما كنت بتتكلم عن الخروجات و الطلعات، بدأت تتكلم عن الامتحانات والمشاريع، بعدها بتتكلم عن الشركات المناسبة للتوظيف، بعدها تجلس مع اصدقائك -او من تبقى منهم- لتحاولوا استخلاص العبر من حياتكم على القهوة فيما يشبه ال group therapy، ثم تجد نقاشات تتعلق بالزواج والتربية الاطفال تدلف برأسها لجلساتكم التافهة قديما، وطبعا المواضيع التي تتعلق بالصحة والرياضة، واننا يا رجالة لازم نحافظ على صحتنا وهكذا، فطبعا كل واحد بيسرد تجربته مع تجارب الدايت التي لا نقربها ولله الحمد، فمن ضمن الاكليشيهات -اللي يبدوا لحد ما انها صحيحة- المحفوظة اللتي بتتقال في النقاشات اللي من النوعية دي ان "جسمك ذكي ماينفعش تمنع نفسك من الاكل لانك كده بتحسسه انه في مجاعة فيبطل يحرق"
صراحة لا اعلم كيف تخرج هذه الجملة من مهندس برمجيات قد انهى برمجة سيرفر "عتاقي"، يعني ممكن اتقبلها من طبيب لم يدرس منطق 101، لكن كيف تصف الجسم بانه ذكي اذا كنت انا امتنع عن الاكل بغرض التخسيس وهو -الجسم- يقوم بتخزين الاكل لانه يظن انه في مجاعة!! حسنا ستقول اذن الجسم "غبي"! لا طبعا
الجسم كآلة ليست غبيا وليس ذكيا، هو يمكن اقرب للمنظومة المنطقية او المنظومة السببية -بالمعنى الفيزيائي لا المعني الهندسي-
بمعنى ان الجسم يخضع للمنظومة السببية، تشرب سطلين من الماء قبل السحور، تبدأ كليتك في العمل، تنتفخ مثانتك، ترسل اشارات كهربية للمخ بان المثانة ستفرغ الماء هذا، ف"تختار" انت ان تدخل الحمام قبل صلاة الفجر، لتكتشف ان محاولاتك ل"تغفيل" جهازك البولي، واقناعه بانك جمل له سنام قد باءت بالفشل! تمتنع عن الطعام، فيفرز جسمك هرمونات تجعلك تشم رائحة اي شئ على انه رائحة شهية، فيسيل لعابك، ف"تختار" انت اما ان تأكل لو يسر الله لك الطعام، او تمتنع عنه ان كنت صائما!

وعلى هذا ادراكك لمنظومة الاسباب، هي اول طريق ادراكك الواقع الخارجي وكيفية تعاملك معه!
فلو حبيت تبدأ فعلا دايت ادرك هذه المنظومة، لكن من فضلك ماتقولش ان الجسم ذكي او غبي، هو ألة مصممة بعناية وبقواعد واسباب سببها الخالق! عندما يتأخر عضو عن القيام بعمله فننا نعلم علما يقينيا مباشرا بان ذلك العضو به عطب، وسنذهب للطبيب -المتخصص في هذه المنظومة السببية- ليصف لنا دواءا يكون سببا في الشفاء باذن الله، لكن انت مثلا لم تسمع عن كلية "اختارت" عدم العمل، او تسمع عن رئة "امتنعت" عن تغذية الجسم بالاوكسيجين، عدم قيام الكلية او الرئة بعملها يعني ان هناك سببا ما هو أصل العطل او العطب واننا باذن الله سنقوم باصلاحه.

يقفز لذهني ذلك المشهد من ثلاثية ماتريكس، مشهد حوار ميروفنجيون مع مورفيس ونيو، يمكنك ان تجد تفريغه النصي هنا: https://goo.gl/A3F764
الميروفنجيون يجادل بان السببية تحكمنا كما تحكم العالم، كما تسبب شرب الكثير من الماء في انتفاخ مثانتك، وكان سببا في اجبارك على الذهاب للحمام، فهو يعمم تلك السببية الحتمية حتى على افعال البشر وحياتهم! ضع نفس الشخص بنفس العقلية والنفسية في نفس الموقف وسيختار نفس الاختيار في كل مرة لا فكاك من هذا! بالرغم مما ينتج عن هذا الاعتقاد من ان الانسان ليس إلا ترس من تروس الطبيعة، مثل حركته وسعيه كحركة الرياح، وهطول دموعه كهطول الامطار،يمكن التنبؤ بهما باستخدام حواسب ضخمة وخوارزميات معقدة، ومثل اشعال الغضب بداخله، كبساطة وضع حمض مع قلوي بداخل معمل الكيمياء والحصول على ملح وماء!
بالرغم من الالزامات التي تنتج من فكرة جبرية الانسان كجبرية الحتمية الفيزيائية، إلا ان تلك الفكرة تمثل عصارة الغرور والكبر الانساني، بالرغم من ان الميروفنجيون يقول بان البشر هم في الحقيقة عبيد وليسوا احرار لخضوعهم لقانون السببية، إلا ان تلك المقولة وذاك المعتقد ليس ناتج ادراك الانسان لضعفه الفطري فقط، ولكنه ناتج ادراك الانسان لضعفه الفطري ممزوجا بكثير من الكبر والغرور الكوني! لانه ان كان كل شئ يخضع لانابيب اختبار المعمل، فان الانسان يمكنه ان يفعل في هذا الكون ما يشاء، يمكنه حتى ان يعامل اخيه الانسان كمعاملته لاي ظاهرة طبيعية يمكن التحكم فيهاو التنبؤ بها!(*)
لهذا يظهر قدرة الانسان على الاختيار الحر او الارادة الحرة، كعقبة امام ذاك المعتقد الجبري! عدم قدرة الانسان على توقع اختيارات و ارادة اخيه الانسان، تعيد الانسان لنقطة الصفر تعيده لتذكره بضعفه الفطري المتأصل فيه وان غروره وكبره هم محض وهم!



لهذا اعتبر ان اعظم نعمة انعمها الله على الانسان بعد خلقه، واخراجه من العدم للوجود، وبعد نعمة العقل واللغة، هي نعمة التخيير، تلك النعمة التي لم يمنحها الله لملائكته، بالرغم من ان الانسان مقهور بالسببية التي سببها وخلقها القهار، إلا ان الله اعطى الانسان القدرة على الاختيار ومع الاختيار جاء الابتلاء!

خلق الله ادم بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه اللغة واعطاه نعمة العقل، ثم خلق له من نفسه سكنا له، ثم جاء وقت اكتشاف ادم عليه السلام لنعمة الله الدفينة فيه وهي قدرته على الاختيار، فاختار ادم ان يأكل من الشجرة، وبهذا تم ما يمكن ان تسميه تدريب ادم على المهمة التي خلق من اجلها -عمارة الارض-  تم هذا التدريب، عندما قام ادم -عليه السلام- بأول اختيار له. بالرغم من ان اول اختيار له كان الاستسلام لوسوسة الشيطان واتيان ما نهاه الله عنه، إلا ان الله عفى وصفح عنه وانعم عليه بتعليمه اياه كيفية التوبة، واخبار الله له بانه تواب رحيم " فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " فالأية تضمنت نعمتين على آدم ونسله من بعده، اخبارهم الله عن نفسه بانه التواب الرحيم، ثم تعليم آدم ونسله كيفية التوبة للتواب الرحيم!

لذا بالرغم من وقوع الابتلاء، الابتلاء الذي يقهر حياتك قهرا، تتذكر ان لديك نعمة الاختيار، اختيار الصبر او اختيار الجزع، اختيار الايمان، او اختيار الجحود، بالرغم انه يوجد حالات لن يغير اختيارك من صورة الابتلاء المباشرة، إلا ان نفسك التي بين جنبيك هي من تتأثر، تصبر فتطلب من القهار مسبب الاسباب،
القيوم على هذه الاسباب المخلوقة العون والاستعانة، لذا كان حقيقة الايمان هو في ادراك افتقار كل شئ في هذا الكون للواحد القهار القيوم، وان كل شئ سواه باطل، وان الابتلاء غايته الاختبار والتمحيص، وانت سيكون عليك الاختيار، لذا امتدح الله المختارين للصبر في احوال المرض والفقر واثناء القتال، لان تلك أقسى اشكال الابتلاء، والايمان حينها والصبر عليها هي صفة للصديقين المتقين!

وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ

ذلك الايمان الذي ينفع في يوم لا ينفع إلا الصادقين صدقهم.




---------------------
(*) تلك النظرية الالحادية للسببية، منشأها عدم مد خط السببية لأخره، بمعنى: لديك زر تضغطه فيضئ مصباح، الطفل يعتقد ان الزر سبب أوحد قائم بذاته يضي المصباح، الانسان البالغ يعلم ان الزر هو احد الاسباب في اضاء المصباح، فالزر لا يقوم بذاته بل هو مفتقر للكهرباء ليمررها ليسمح للمصباح بالاضاءة، وهكذا الكهرباء مفتقرة لمن يولدها ويمكن يضبط خصائصها، وكذلك من يضبط خصائص الكهرباء مفتقر لغيره وهكذا حتى نصل في نهاية سلسلة الافتقار تلك لمن لا يفتقر لشئ وهو المولد الذي يخرج الكهرباء، كذلك الجندي ينتظر امرا من قائده ليطلق الرصاص، وقائده ينتظر امرا من قائده و قائده ينتظر امرا من قائده، وهكذا، فإن كان هذا الامتداد لانهائي فلا يمكن للجندي ان يطلق الرصاص، أما اننا نعلم ان الجندي قد اطلق الرصاص، فنعلم يقينا ان تلك السلسلة يقف على قمتها من هو خارج عن قوانينها، يقهر قوانين تلك السلسلة قهرا بارادته وبعلمه وبعمله! لا ينتظر امرا من احدا لاصدار امر اطلاق الرصاص!
فإن السببية اول ما تدل، فإنها تدل على الخالق القيوم القهار، يمكنك مراجعة فصل السببية من كتاب "اختراق عقل" لد.احمد ابراهيم، فقد اجاد فيه!
ويتلازم اسم الله الواحد والقهار مع بعضهما في أيات القرآن، و بذاك قال ابن القيم في نونيته:
والقهر والتوحيد يشهد منهما ... كل لصاحبه هما عدلان
ولذلك اقترنا جميعا في صفا ... ت الله فانظر ذاك في القرآن
فالواحد القهار حقا ليس في الإ ... مكان أن تحظى به ذاتان






















Comments

Popular posts from this blog

ستمحوه الرياح

سألت ربي